الثلاثاء، 2 ديسمبر 2014

حكايات الليل الضائعة



بداية دعني أقول لك أن ليس كل شيء يشابه ما يبدو عليه، كما عليك معرفة أن هذا المقال شخصي بحت، فكل ما كتب هنا من وحي الخيال الحي، إلى ريم وإلى الأصدقاء وإلى الليل الذي لم أعش غير فيه، دون ندم أو أمل.

(1) بنت اسمها ريم

الشارقة، الإمارات
2013

تقف بعيداً، تسمو بجميع معاني الجمال فوق صخرة مطلة على الخليج. سارحة هي في ذلك الفناء الأسود بلا هدف. عالية تحلق ولا يلحظها أحد وكأنها غير موجودة. يبتلعها السواد وتبرق من خلاله عيناها الأكثر سوادا. على رغم كل ما في جسدها من ملذات لم أرمقها بشهوة قط. المكان لا يخلو من الضجيج، هي لا تهتم، تقوم فرقة موسيقية بالعزف فأطلب من أحدهم الأوكرديون الخاص به وأنطلق بالعزف منفرداً. نعم نعم، لقد لفت إنتباهها، أستمر في العزف وتتابعني بعيناها التي كدت أن أبدي كل عجزي أمامهما، لوهلة شعرت بها تتراقص على أنغام الموسيقى أمامي من ثم أدركت أن الدنيا هي التي تتراقص بي. مثل عازف الجنة كنت أنا !

أنتهيت أخيراً فقام بالتصفيق لي قلة قليلة حولي، استوقفتني وقالت لي بهدؤ انتزعني "برافو"، انتابني الشعور بالارتباك، في حياتي ما أستوقفتني فتاة لم أك بسابق معرفة بها. في حياتي لم تستوقفني فتاة أردتها كهذه، من النظرة الأولى وانسدالل الشعرة الأولى على قلبي. سألتها بمرح طفولي كنت أظن أنني لم أعد أملك نيف منه "أنتِ اسمك ايه؟".. ومن هنا بدأ كل شيء.

تدعى "ريم"، لبنانية، شيعية المذهب، العائق الأول الذي لم أهتم به أبداً، ثلاثة أيام يا ريم كنا معا. ثلاثة أيام حضرت بروحها في الأول وحضرت بنفسها وروحها وجسدها في الاثنين الباقيين. كانت صريحة معي للغاية وأعترفت لي بأنها لا تحب المصريين وأنني حالة خاصة بالنسبة لها، فأخبرتها بأن هذا لا يضايقني كثيراً فأنا أيضاً لا أحب أحداً. الغريب أنها تحب الأدب وهذا ندر ما وجدته في فتاة، خاصة عندما تكون حسناء، متابعة للقضية الفلسطينية بل ومؤيدة ثائرة من أجلها. لقد كانت، بلا مبالغة وبلا أن أشعرها أيضاً بهذا الأمر، ملهمتي. قضينا يومين ولا في الأحلام. ماذا فعلنا؟ ولا شيء. لقاء على شاطيء الشارقة الأسود و غيره في دبي، حكت لي كل ما جرى. كانت الأم والحبيبة والوطن.. تولدت قوتها من حبي وتولد حبي من ضعفها، أول قبلة على شفتاي، أول حب حقيقي وأشياء أخرى أبخل بالحكي عنها حتى لنفسي.

الآن، أين هي؟ هي الذي ظن الجميع أنها مجرد خيالات تتداعى من أفكاري، هي التي كتبت فيها القصص والأشعار. تبادلنا الرسائل من الكويت إلى الولايات المتحدة ومن الولايات إلى الكويت، أنتهى الأمر لما سألتني عن مصير علاقتنا وأنا "السني" و هي "الشيعية" فكيف ستكون نهايتنا؟ طلبت منها أن لا تأبه، ففعلت ولكنها لم تأبه بي أنا. كأن البعد يثقل القلوب هموما وينسيها الوعد الذي كان. تبادلت الرسائل مع ريم بريدياً كما لم يفعل أحد في هذا الزمان، وقد انقطعت الآن عني لينقطع وراءها كل شيء وهكذا سأوجه رسالتي لك حالاً يا ريم، في الليل، كما رأيتك وتلاقينا، وكما أحببنا بعضنا، ومثل ما هربنا وعرفنا بعضنا البعض، لعلك تقرأينها :
 حبيبتي ريم، لقد أصبح كل شيء روتيني للغاية إلى حد الملل.. على عكس ما عهدتيني بالأمل و التفاؤل، أنا محبط.. يائس من حياتي عديمة القيمة و الأهمية، أصبحت محاطا بالأغبياء الذين لا يتفهمون إختلافي معهم، الإنسانية وعزة النفس والحب والثورة.. كلها وغيرها من المعاني التي أملنا وجودها ما هي إلا كلمات نثرت من العدم لتعود إليه.. لا تنسِ المرسال الذي وعدتني به بدل اللقاء منتهِ المصير .. دائماً سأكون هناك، منتظر.

(2) ضحك وحزن وهم

المنيل، القاهرة
يوليو 2014

فور وصولي إليها وفي أول لقاء لي معه فيها يحدثني صديقي ع.س عن حال البلد الذي ساء وأصبح لا يحتمل. نفسيات الناس السيئة والتعامل الاإنساني. الصدمة من الواقع المعاكس لهراء الشاشات الصغيرة الناقلة الحال لنا ونحن هناك، في الكويت، والأهم من كل ذلك هو الأسى الغير ظاهر في لهجته عن فشل الثورة. ابتسم وأقول له بأمل كاذب "ليه كدا بس؟ ما البلد أهي زي الفل". فما يلبث أن يسخر مني.

أعرف ع.س جيداً، حين يريد أن يخرج من موقف محرج أو مرير فهو يلجأ للسخرية والدعابة مباشرةً، ولذلك، في هذا الصيف بالتحديد، كان أكثر ميلا في أغلب الأوقات إليها، ولن أنكر أنه كان في عز "مسخرته" أثناء السخرية من أي شيء. كنت أضحك، أغرق في نوبات هستيرية من الضحك، ثم تخاطبني نفسي فتطلب مني ألا أفرح كثيراً، فما هذا إلا ضحك مجروح يداري وراءه الكثير. أحاول أن أكذب نفسي و أفشل. أصمت. أنظر إلى النيل الذي لم أحبه يوماً لمقارنتي له مرغما ببحر الاسكندرية.. موطني الأول والأخير..

لما عاودت النظر إلى ع.س بعد انتهاءه من السخرية كانت عيناه مليئتان بالهزيمة، طلبت منه هو و م.ف رفيقي الآخر الذي كان معنا أن أدخل إلى مسجد قريب من أجل إفراغ حاجتي في حمامه، دخلت الحمام وأغلقت على نفسي بإحكام وكأن أحداً ينتظرني في الخارج ويراقبني، وبدأت في مسح الدموع، دموع القهر.

(3) عن خيبات الأمل المتكررة

أبوحليفة، الكويت
أكتوبر 2014

في طريق العودة، يكلمني ع.م عن الفتاة التي يحبها، أقوم بإخباره بأنها ليست على القدر الأخلاقي المطلوب كما يظن، وإن لم أرى ذلك بعيني فيكفي أني سمعت، هكذا يتطلب مني واجب الصداقة و"الرجولة"، أو في واقع الأمر قد أكون فعلت ذلك ﻷرضي ساديتي فقط. لا أعلم. يتلعثم ولا يتوقف عن سرد كيف يعشقها، هو ليس صريحاً، تارة يعترف بجنونه بها و تارة أخرى يعلن أنه لن يتأثر إذا لم يظفر بها. يبدو نسيم الهواء قوياً والطرقات خالية، تمر طفلة وحيدة في الناحية الأخرى من الشارع فيقاطعنا الصمت ويعطي كل تركيزه لهذه الطفلة ليصيبني الشك باحتمالية أن تكون هي.

كليلة شتاء باردة كنتِ أنتِ !
ندمت على قولي لصديقي كل ما قلت، هل علقته بك أكثر أم خلقت بينك وبينه حلقات مفرغة لا يوجد ما يملأها؟ فهو يقترب منك ويبتعد خوفاً من كلام الآخرين، أقول له أنني كاذب، هم كاذبون فاشلون، لا يسمع ولا يبتعد عنك أو يقترب، يرقص على سلم سيأخذه ليرتطم على وجهه في الضفحة الأخيرة من القصة. في لليل على جسر ممتد في البحر يحك عنك بحزن عميق للأشجار والقمر والنجوم، يحك عنك لكل ما في الكون إلاي، وتحطمي أنتِ قلبه بتجاهلك ليعاتبني بنظرة لوم أبدية.

(4) معتقلات

أبوحليفة، الكويت
28 نوفمبر 2014

لو كان الشواء رياضة لكنت بطل العالم فيه، أحب الشواء لما فيه من ألفة وروح حميمية بين الأصدقاء، بين المشعل والشاوي والواضع والآكل، كل الوظائف المتبادلة والحكايات كذلك،  تشتعل النيران لتدفئ أرواحنا كالقمر في قلب السماء، نغني مع بعضنا أغان مختلفة ولا أندمج إلا مع آنسة الفن فيروز والرحباني في رثائه المعظم لنا

"يا عود يا رفيق السهر يا عود
متكي على المخمل بتتوجع
وتروح عا آخر دنيي و ترجع
تكتب و تمحي حدود يا عود
إحكيلي عالسهريات
بقصور كلها رخام و نوافير
وتشعشع الكاسات
عخصور تتلوى وحرير يطير
بحيرات مي ونار
وصوتك يشتي قمار
يشتي حلا غيم وزنابق سود
يا عود"

أكان للأمر علاقة بزياد رحباني؟ وقد كان هو من ترك لبنان لحزب الله خوفا من الاصطدام أو العتقال، بصراحة، وصفع إيانا بالقوي، تسلسلات قهرية استمرت و أنهاها زياد بما فعل مما ترك فينا بصمة محزنة قاتمة. في أعماق الخليج يقف الصديق ه.ش بعيداً بعيداً، رافعاً بنطاله إلى ركبتيه واضعا سماعات الهاتف في أذنه كمن لم يعد يهتم بأي كان. بالطبع نحن نعرف ما كان يفكر فيه. الأمر سهل للغاية وبالرغم من ذلك أصعب ما يكون. هو يفكر في أخيه الذي في المعتقل في مصر، أم الدنيا، أخيه الذي لم يفعل سوى أن جلس في البيت ليفتن عليه أحد كارهيه بأنه تابع لجماعة الإخوان ومن هنا بقي خلف القضبان وحيداً حائراً بكل الظلم الذي في الدنيا. لو كان ه.ش هو الذي أعتقل لكنت صدقت الأمر وأستوعبته لتمرده وصموده ضد الظلم وعدم الخوف، بينما أخاه الأكبر لم أسمع صوته في كل المرات التي شاهدته فيها في حياتي.

 ترى كم مرة سخط الحكومة؟ السياسة؟ المسؤولين؟ الشعب؟ البلد؟.. مشيت إليه بخطوات متثاقلة فتفاداني موجهاً وجهه نحو الجهة المعاكسة، سألته "مالك" فأشار إلي، والمرارة على وجهه، بأصبع واحد يعني منه أن سنة كاملة قد مرت ومضى.
نذهب بعدها لقهوتنا التي شهدت أعظم ليالينا بكل بؤسها وما تبقى فينا من دنيا، وسط الحديث يأتي أحد الجالسين بسيرة أحد أقاربه والذي كان، كما روى، في لجنة الخمسين لينطلق صديق آخر بلهفة وحسرة في آن واحد لم أرهما فيه من قبل ليقول "ايه دا؟ يعني ممكن دا يتوسط لابن خالتي عشان يطلع؟" يسود الصمت. استفسر عن ابن خالته الذي أول مرة أسمع عنه وعن اعتقاله مع العلم أن علاقتي بهذا الصديق وطيدة، لأعرف من التفاصيل أنه طالب في كلية طب و قد تم اعتقاله من ضمن الذين اعتقلوا أيام المجلس العسكري. نحلم في هذه الجلسة بالسفر، في أي مكان لا ينتمي لهذه العروبة، نحلم ونتناقل اسماء البلاد ونسافر إليها حين ننام على سريرنا بعد العودة للمنزل.

ثاني يوم، أستيقظ متأخراً في الليل لسهري الطويل في اليوم السابق، أول ما فعلته هو سؤالي عن نتيجة محاكمة طاغية مصر وناهبها حسني مبارك لأعلم ببراءته، أشعر بصدمة لا تنتهي، يضيع تركيزي ووقتي في العدم، تكلمني ه.و ولا أرد. أكتب هذه القصيدة :

أنا قلت ألاقي حياة
أنا قلت أكون مبسوط
أنا قلت اعيش ويا
الثورة في الملكوت
والحلم ماتحققش
والحكم كان ظالم
غدر القرار موت
قلبي اللي كان حالم
الحلم كان رحلة
والرحلة حدوتة
فالرحلة ملغية
حكاويا ملتوتة
عشق الجبان لأمان
كداب في تفاصيله
خلاه يجيب الوهم
ويبيع قصاده الروح
الروح في روح الله
ومن باع الله مجروح
كدب الحياة زايف
والحق مسيره يبان
الحق مش خايف
وفي يوم من الأيام
لما أشوف البنت
وأبوسها في خدودها
-البنت (حورية)-
مخرجتش ع حدودها
فمجالهاش الخطاب
لجل الشرف والصون
عمره ما دق الباب
ساكت سكوت الكون
وفي مرة حورية
راحت بعلو الصوت
تقول : يا حرية
رعبت وحوش وأسود
بس الحياة صايعة
والغدر عنها غريب
فارقت (حورية) حياتنا
على أمل إن احنا نجيب
حق اللي مات في الوحدة
حق اللي ماتوا بصمت
لكن ظروف المحنة
ضعفت فينا الآمال
همومي على كتافي
ماشي كما الشيال
باخد على قفايا
عمال أنا عمال،
الرقص على قبرها
شغال ولا الأعياد
والميتين وسطها
في سماهم لفوا بلاد
والحزن ماخلصشي
ورضاهم صار ممنوع
نقول يا معلشي
فتلف الكلمة نجوع
نجوع لأكل وروح
نسكت ساعات ونبوح
يجي الظالم وتفوح
ريحته الزانية
والضربة القاضية
الضربة الخاينة
قتلت فينا الأحاسيس
قتلت فينا الأحلام
دمي في بلدي رخيص
ومن غير أي كلام
مشى وسابنا البدر
طبع بلدنا خسيس
طبع بلدنا الغدر..
.
ثم أنام بعد هذه القصيدة التافهة، ولأول مرة في الليل !

إيهاب ممدوح
ExAy7@