الثلاثاء، 27 مايو 2014

إلى الله


أستيقظ في ذلك الصباح البارد ملقيا نظرة ثاقبة من نافذته الغارقة بماء المطر على شارعه الهادئ المبتل منتظرا تلك الفتاة التي تجتاح هذا الهدؤ اليومي لتجعل قلبه و الشارع يتراقصان من الفرحة و البهجة.. بعد أن أنتظر كثيرا و لم تأت عاد ليجلس على أريكته المفضلة مشعلا سيجاره الحبيب لينفث الدخان العزيز.. قام بفعل أفضل ما يمكنه فعله و هو "الاسترخاء" ببوكسره المفضل.. و هو يتناول قهوته الفرنسية التي أعدها سريعا و بدأ يفكر في ريم.. هل كان مخطئا في حقها ؟ أم هي التي أجبرته على فعل ذلك ؟.. كان فراق ريم كالصفعة القوية على قلبه الحزين.. يعلم أن وقته بالنسبة لها قد أنتهى.. و لكن كان يتساءل دائماً لماذا ينتهي كل شئ ؟ هل ﻷن النهايات لا بد منها أم لأننا لا نستطيع الاستمرار ؟.. مر عليه هذا العام بصعوبة شديدة.. فالآن و هو يفكر في شئ جديد ليقوم بفعله في نهاية العام التي اقتربت يتذكر ريم.. يتذكر أصدقاءه.. يتذكر مبادئه أو ما تبقى منها.. يتذكر أخاه الأكبر.. كل تلك الأشياء الجميلة أنتهت.. كان عام النهايات و الآن قارب العام نفسه على أن ينتهي.. حقاً لا يجد أي فكرة جيدة ليفعلها في نهاية العام و لذلك قرر ألا يفكر في الأمر و ذهب ليأخذ حماما ساخنا يهدئ أعماقه و ينظف وجدانه.. وضع ملابسه و جهز الماء لكنه لاحظ ما تمنى ألا يلحظه.. الساعة الفضية التي جلبتها له ريم في عيد ميلاده في العام السابق.. تألم و وقف أمام الساعة قليلاً ثم بدأ يستذكر ذلك اليوم الرائع معها..
***
 كانت تقف بجانبه دون أن تنظر له.. أراد أن يبدأ الحديث معها و لكنه كان يريد أن يستمتع أكثر بوجهها الجميل الساقط عليه شعرها الأسود اللامع المنساب.. كان حينها في أشد الحاجة للتدخين و لكنه تماسك و لم يفعل لعلمه بكرهها الشديد لذلك الأمر و التي طالبته كثيراً بأن يتوقف عنه و لكنه فعلياً لم يستطع.. عاد لينظر إلى البحر الواسع ليتأمل لحظة الغروب الصامتة على بحر الاسكندرية و التي قد تحل محل مائة عبوة مهدئ.. لم يرد أن يقطع الصمت و يبدو أن الصمت هو الذي قطعه.. مع مرور أكثر من ربع ساعة رمقته و أدعى أنه لم يلحظ ذلك.. "البحر جميل.." هكذا قالتها و هي تنظر له بعينيها البنيتان الموسيقيتان.. ﻷول مرة يعرف أن العيون قد تتلاقى مع الموسيقى ليكونا شيئاً عظيماً كهذا.. إلا أن ذلك لم يجعله يندهش لأنها ريم.. هو لم يندهش قط من أي شئ إلا أنه أندهش منها ككل.. كيف يستطيع رجال العالم العيش بدونها ؟ أنهم لحقاً بؤساء لظنهم أن هؤلاء نساء.. إنهن مجرد محاولات تعويض لن تصمد أمام رمش عين واحد لريم.. رد عليها دون أن ينظر إليها حتى لا يغرق في تلك العينان الملحميتان قائلاً "الاسكندرية هي الجميلة.." استمر الخجل مسيطرا عليها و قد صاحبه بعض الكبرياء في حين كان هو ينتظرها أن تنطق بكلمة.. كانت دقات قلبه تزداد و مع ذلك كان يبدو في شدة البرود إلا ان ريم هي الوحيدة التي كانت تعلم ما يدور بداخله.. نظرا لبعضهما البعض و كانت الأعين تحمل كلاماً كثيراً.. كان هو لا يتذكر أن اليوم عيد ميلاده و كانت هي لم تنس ذلك أبداً..
***
لا يستطيع أن ينسى كيف قطعا الصمت اللعين بضحكاتهما العالية.. كيف كانا رائعان و كيف كانت ملابسهما بعد الجري وراء بعضهما البعض في البحر الهائج.. كانا سعيدان.

كانت تجلس على الأرجوحة دون أن تجمح إلى السماء و دون أن تقف ثابتة.. تمتعت بالاهتزاز الخفيف الذي كان أقرب لروحها.

كانت تلك هي ريم.. للحظة ارتبك و تحرك من أمام الساعة التي لا تمثل أي قيمة له سوى أنها من محبوبته الجميلة الراحلة.. بعد أن أخذ حمامه الدافئ و الذي أختلطت ماءه بالدمع الهادئ.. قرر أن يكتب لريم رسالة مع عدم علمه بسبب حقيقي لذلك.. ربما ﻷنه لم يأت له نوم فقرر أن يكتب هذا الكلام و هو يعلم أنه ساذج !

بالنسبة له الأمر كان في غاية التعقيد.. ليس بسهل أن تكتب رسالة لريم.. الأمر يتطلب عبقرية خارقة لعزف معزوفة طويلة لبيتهوفن !.. لا يعلم من أين يبدأ و من أين ينتهي.. في الواقع هو لم يرد أن ينتهي إطلاقاً.. ألا تكفي كل هذه النهايات التي حدثت و التي قارب أن ينتهي معها ؟.. أمسك بقلمه الرصاص و ورقته الهزيلة.. و بعد أن وضع التاريخ في بداية الصفحة على اليمين كتب تحتها الآتي :
" محبوبتي ريم..
قبل أن تمزقي تلك الورقة -إن قمتي بفتحها- أرجوكي أن تنتظري قليلاً و تستمعي إلي.. رائحتك تزعجني كلما شممت الورد.. كلما رأيت الشموع البنية التي ينطلق منها الضؤ الأصفر تذكرت عيناكي.. لا فائدة من هذا الخطاب.. و لكن على الأقل يجب أن تعلمي الحقيقة.. في بعض الأحيان لا يكون أمامك إلا إظهار الوغد الذي تخبئه بداخلك.. عرفتيني منذ صغري و تعلمين أنني لست سيئاً إلى هذا الحد.. صدقيني ما حدث لم يكن بيدي.. لحظة ! توقفي ! لماذا أفكر في أن أكمل لك هذه الرسالة ؟! الآن فقط تذكرت.. لقد أرسلت لك الكثير و لم أتلقى رد.. الآن لا أتوقع أي رد و مع ذلك إن أرسلتي لي سأكون في غاية السعادة.. سلام"
وضع الورقة في ظرف أبيض و كتب عليه في الخارج بخط عريض بني (إهداء إلى الله) ثم قام بحرقه إنتقاما من ريم و شكراً إلى الله.. يبدو أنه سيظل أسيراً لها لمدة غير معلومة الانتهاء.. الشئ الوحيد الذي كان يريده ان ينتهي لن ينتهي أبداً و هذه هي مكافئة الله له.. أنهى يومه في حانة صغيرة مليئة بزجاجات الخمر الفائقة للجمال ثم عاد إلى منزله و هو منفعل بشدة.. مزق كل الرسومات التي رسمتها معه.. حرق كل رسائلها له.. حذف ألبومات الذكريات في القمامة.. و حطم الساعة الفضية و حولها إلى فتات.. كثرت المشاعر في الجو من كراهية و حب.. قلق و طمأنينة.. ندم و فخر.. وقف أمام نفسه في المرآة.. كان مشتت حقاً و حائرا بشدة لم يجد الحل إلا النوم.. بعد كل المحاولات أكتشف أنه لا مفر من الهرب.. برغم كل ما ينتظره من مستقبل منير إلا أنه يفضل العيش في عالمه الكئيب.. وهب نفسه إلى الله كراهب يقوم بكل ما هو خير و إنساني لتحسين الكون -مع علمه بحرمانية الرهبانية في دينه- إلا أن هذا كان الحل الثاني و الذي قد يفعله إذا قام بفعل الحل الأول و هو النوم.. مع أنه يفضل و بشدة ألا يقوم منه لكي يذهب إلى الله.

_______________________________

تم نشر هذه القصة في جريدة القبس الكويتية، بعد حذف المحرر أجزاء منها وتغيير العنوان إلى (ذكريات) !
لمشاهدة القصة في جريدة القبس أضغط هنا أو هنا.



إيهاب ممدوح
@Ehab_M_M

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق